"نوستالجيا"

راودني الحنين الى الماضي البعيد٬ ذلك الماضي الذي كنت ما أزال فيه طفلة بريئة نقية٬ لم تلوثها عيون الناس وهمساتهم٬ أضحك ٬ ألعب دون أن أمنح أي اعتبار لأي كان ٬ حتى لأحزاننا التي كانت تحل ضيفة على بيتنا رغما عنا٠
قادني الشوق الجامح إلى معانقة الزمن الغابر٬ ذلك الزمن الذي كنت خالية الوفاض فيه من أي مسؤولية أو انتماء ٬ ما عدا انتمائي لحضن دافئ٬ أحس فيه بالأمان رغم أنه لم يكن لي وحدي ٬ لزاما كان لابد أن يشاطرني فيه غيري رغما عني٠
طاف بي خيالي التائه بين الدروب والأزقة التي أصبحت الآن مجرد أطلال بالية٬ فما عادت المعالم هي نفسها التي تفتحت بصيرتي عليها٬ ولا عاد لرفقاء الصبا وجود خلف أبواب منازلها٬ ذلك أن الدهر أخذ دفء أسوارها و ألوانها ورسوماتها ٬ كما خطف بسمة الطفولة ٬ صيحة الشباب وقهقهة الكهولة ٬ لم يترك هناك إلا أنين الشيخوخة٬ السنفونية التي يسمع صداها في الأفق العالي رغما عنا٠
رغما عني أحن للماضي٬ يقودني شوق جارف لمعانقته ٬ ويطوف خيالي بين أيامه ولياله٬ لاسترجاع ذكرياته٬ بحزنها وفرحها٬ بألمها وسعادتها٬ بسرائها وضرائها ٬ أتمعن في كل التجارب التي أجبرت أن أجتازها إما بفشل وإخفاق أو بنجاح وانتصار٬ أتأمل كل المواقف التي صادفت طريقي وتخطيتها إما بحكمة ودهاء أو بجهل وغباء٠٠٠٠
أحب الرجوع قليلا إلى الماضي والانغماس فيه٬ ليس هروبا من الواقع أو خوفا من المستقبل٬ وإنما لأخذ فاصلا مستقطعا قصيرا من الحاضر استعدادا للمستقبل ٬ كونه المدرسة التي تعلمنا فيها قواعد الثبات ٬ العزيمة و الصمود٬ تعلمنا من خلاله الوفاء٬ الاخاء والتضحية٬ و مهما حاولنا نسيانه او تجاهله فهو تاريخنا الذي يستمر حتى الخلود٬ رغما عنا يبقى حيا نابضا بداخل افئدتنا مهما جاهدنا افكارنا الا تداعب بنانه ٬ رغما عنا يظل الحلبة الوحيدة التي يلتقي فيها الأمس والحاضر والغد٬ يتصارع فيها الممكن والمستحيل ٬ يتحارب بين زواياها الصعب الشديد والسهل السديد ٬وبين هذا وذاك ٬ تكون الغلبة فيه كيفما شئنا بفعل إرادتنا٬ بآمالنا ٬ بأحلامنا وطموحاتنا وليست رغما عنا٬ لأنه لا يوجد شيء رغما عنا٬ حتى لو كان دفن حاضرنا ومستقبلنا في قبر الماضي السحيق٠

بقلم فدوى الجراري