هاجر الطيب صالح الى الشمال فاتى برائعته موسم الهجرة وهاجرت فدوى مالك الجرارى الى الشرق تحديدا الى الريف االسودانى.... فأتتنا بتحليل وبحث مستفيض فك طلاسم تلك الرواية الجميلة التى لم يفهمها أغلبية العرب ولا السودانيين..
أتتنا فدوى بمغزى وفحوى وأبعاد ما قصده الطيب صالح ...وكانت شجاعة وجريئة جدا فى التحليل والنقد وخاصة
ومن يقراء التحليل يفهم الرواية الجبارة والتحليل الرائع ...
نحن نرفع القبعه احتراما لك يا فدوى
لك الشكر والتقدير
بلل ادريس
منذ أن وعيت على حبي للقراءة لم تتفتح مداركي إلا على المؤلفات المصرية واللبنانية والمغربية والسعودية ، لم أكن أتوقع أن هناك مؤلفات سودانية تحتل الصدارة.
في يوم كنت منسجمة فيه في الحديث عن الأدب والأدباء مع الصديق الكريم والأخ العزيز بلل الجراري فوجهني لقراءة رواية موسم الهجرة للشمال للطيب صالح ، اهتممت بالموضوع واقتنيت الرواية بكل شوق وقرأتها في أقل من يومين بشكل مدقق و متمعنة لما تحتويه السطور، ولأني عشقت الرواية عشقا لا يقل عن عشقي لروايات المنفلوظي ، جبران ، محفوظ ، عبد الكريم غلاب محمد شكري ...، وحتى تظل أحداث الرواية حاضرة في مخيلتي قمت بتسجيل دراسة مستفيضة عما تختزله من أبعاد ودلالات وحتى لا تظل مقتصرة عندي فقط فضلت أن يشاركني فيه كل أصدقائي وصديقاتي في المنتدى ، ولنبدأ أولا بدراسة للشخصيات بعدها نقف عند الأبعاد والدلالات المنطوية تحتها ، لكن قبل ذلك أجدد شكري وامتناني للسيد بلل الجراري عن هذه الفرصة القيمة التي منحني إياها.
مصطفى سعيد: كان الشخصية المحورية لرواية "موسم الهجرة للشمال" وعنه تفرعت باقي الشخصيات والأحداث.
مصطفى سعيد هزمه اليتم ، وهزمه العيش في حضن أمه البارد ووسط بيئة لم تربطه بها أية عاطفة ، الظروف السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي عانت منها بلده جعلت منه شخصية مركبة ومعقدة ، شخصية مستغلة منتهزة للفرص وهذا بدأ منذ أن أتيحت له الفرصة لولوج صفوف المدرسة ، كعضو في جيل ناشيء مثمر لخدمة المستعمر ، لكن طموح مصطفى كان أكبر من طموح المستعمرالمستبد ، فقد انصرف إلى النهل من العلوم والمعارف ، مثل شخص جائع حرم من الطعام مدة طويلة فوجد أمامه رغيف ابتلعه بأكمله في لقمة واحدة ، هكذا تجاوز أقرانه في الفصل ، لتتيح له الظروف فرصة ثانية لم يتوقعها حتى في الخيال ، وهي فرصة الالتحاق بالقاهرة لينهي تعليمه ، هناك وجد لأول مرة حضنا حرارته أدفأ من حرارة أمه ، هذا الحضن هو حضن السيدة روبسن وزوجها الذين منحاه الحنان والأمان ولو لوقت وجيز ، وظلا يرعيانه كابن لهما حتى لما هاجر باحثا عن آفاق أخرى في عاصمة الضباب ، فبطلنا لم يعتبر القاهرة إلا الدرجة الأولى في سلم النجاح والتفوق ، هذه المدينة الغريبة شكلا ومضمونا عن وطنه العربي وجد فيها فضاءا خصبا لتوسيع مداركه ومعارفه حتى احتل مراكز الصدارة في المجتمع درس الإقتصاد ودرسه كمحاضرلابناء من احتلوه بلده ، واعتبر هذه الفرصة الخطوة الأولى للانتقام من كل المعاناة التي عاشتها بلاده على يد المستعمر المحتل ، نال شهرة واسعة في الوسط اللندني سواءعلى المستوى الفكري أو حتى على مستوى براعته في اصطياد شقراوات البلد ، فقد كان الفارس الذي تحلم به كل فتاة كل واحدة من منظورها الخاص ، فشهريار العرب حرك الحنين إلى الشرق في نفسية آن همند التي أحبت فيه شرقيته وتغزله بها من خلال أشعار أبي نواس ، أما شيلا غرينود فقد أحبت فيه آنتماءه إلى الطبقة العاملة الوسطى هذه الطبقة التي كانت في نظرها هي الستقبل المشرق لأي بلد ، رغم أن حبها له كان محفوفا بالمخاوف من ردت فعل اهلها ، في حين كان وجود إيزابيلا سيموز في حياة مصطفى سعيد مختلفا عن سابقتيه ، فما آكتشفته فيه جعلها ترمي وراء ظهرها كل تقاليد مجتمعها ، وكل تعاليم دينها ، ضحت بكل شيء حتى بآستقرارأسرتها وسعادتها المهم بالنسبة لها هو أن تحقق ملذاتها الشخصية وإشباعها ، سحر مصطفى سعيد أعمى بصرها وأيقض فيها شباب القلب رغم أن جسدها لعب عليه الزمن أداورا بكل حنية ، لكن المثير في الأمر هو النهاية المأساوية لهن جميعا ، فكأن الداخلة إلى حياة مصطفى سعيد ستخرج من باب واحدة هي باب الإنتحاروالموت ، وكما يقال لكل جبار جلاد ، فإن كان مصطفى سعيد قد آستطاع غزو أفكار معشوقاته وأجسادهن ، فقد وقف جامدا أمام جين موريس التي حطمت ببرودها ولامبالاتها قوة وصلابة الصياد المغوار الذي ظل يطارد فريسته مدة ثلاثة سنوات دون أن تستجيب له كسرت بداخله حب الشهوة وحب الإنتقام ، حطمت غروره وتعجرفه ، أذاقته مختلف أصناف المهانة والذل والإحتقار الذي آستمر حتى بعدما تزوجته ، ومازاد الطينة بلة هو آعترافها المتكرر بكل جرأة عن خيانتها له ، الأمر الذي فقد معه بطلنا سيطرته على نفسه فأقدم على قتلها واضعا حدا لإحتقاراتها وإهانتها المتكررة ليتأكد لنا من جديد أن الموت هو المصير الحتمي لكل من تدخل حياة مصطفى سعيد ، وبموت جين ودخوله السجن بدأت صفحة جديدة من حياته تلوح في الأفق ، صفحة الضياع والتشرد حتى لاذ بالفرار من كل هذ وذاك عائدا لحضن بلده الأم ، مستقرا في إحدى قراه باحثا عن الأمان والإستقرار وسكون النفس أشياء لم يعثر عليها في صخب الحياة الأوروبية ولا في أحضان من عاشرهن ، وجدها فقط في حضن فتاة ريفية بسيطة وفي قلب أهلها الذي يفوق كرمه وحنانه الحدود ، وهو بادلهم نفس الحب والإهتمام حتى وإن كان باردا لأنه لم يعرف معناه أبدا من قبل ؛ ورغم انطواءه وسكوته كان عنصرا فعالا في القرية فقد أغناها من عصارة تجاربه لدراسته لعلم الإقتصاد ، فطورها اقتصاديا وفتح لهم المجال لمدارك أخرى.
وأمام كل الأحداث التي مر بها مصطفى سعيد من حبه للعلم الذي قاده لحب الإنتقام من العدو المستبد والتي مثلتها علاقته بالأوروبيات إلى بحثه عن السكون النفسي في حضن زوجته حسنة أو الفكري في شخصية الراوي كان لزاما عليه وضع النهاية لكل ما مضى ، النهاية التي وجدها في نهر النيل الذي فاض على سكان القرية إدانا منه برفضه لآستسلامهم للجهل والتحجر الفكري ، فغرق مصطفى سعيد في النهر أو إنتحاره به ما هو إلا نور خافت بعد ظلام دامس هب على القرية ليقيضهم من سباتهم العميق ، لكن ذلك لم يجدي نفعا وقد بان ذلك بوضوح في تعاملهم مع حسنة أرملة مصطفى سعيد في إجبارهم لها على الزواج بود الريس إجبار أدى بها إلى قتله وقتل نفسها ، لتعزز نظريتنا السالفة في كون أن كل امرأة تدخل حياة مصطفى سعيد لن تخرج منها إلا ميتة.
وهكذا نجد أن مصطفى سعيد عاش ومات تائها بين الحقيقة والسراب ، قلب معلق بين السماء والأرض ، وفكر سابح بين الواقع والخيال ، وأمل مقيد بين الممكن والمستحيل.
الراوي: شخصية مجهولة الاسم مثبوت هويتها وانتماءها لأرض صلبة قاومت الاستعمار بشدة تفوق مقاومتها للجهل والاستبداد ، وجودها في الرواية لم يكن اعتباطيا ، بل هو وجود ضروري لا غنى للكاتب عنه ، وعودته للقرية في هذا الوقت بالضبط كان محسوبا ومدروسا من قبله ، فحضوره على الساحة في هذا الظرف الزمني كان تمهيدا لنهاية دور مصطفى فاسحا له المجال ليلعب اللحظات الأخيرة المتبقية من الفصل الأول في رواية الحياة.
شخصية الراوي شخصية هادئة صامتة تعلمت من الثقافة الغربية الإصغاء وجمع الأفكار أكثر من الثرثرة بشيء لا يفيذ أبدا ، لذلك نجده في أغلب آجتماعات جده بأصدقاءه صامتا لا تتحرك شفتيه بأي حرف إلا إذا كان هناك جوابا لسؤال موجه إليه شخصيا ، لكنه مع ذلك لم يكن شخصا لا مباليا حيال عائلته سواء الصغيرة أو الكبيرة والمتمثلة في أهل قريته ، وهذا واضح بشكل جلي في عدم قبوله لوجود شخص غريب بينهم ـ مصطفى سعيد ـ دون معرفة ماضيه وأصله ، الأمر الذي جعله دائم اللحاق به وبآثاره حتى يتمكن من معرفة هذه الشخصية المجهولة الأصل ؛ والتي آستأثرت بمحبة الناس وثقفتهم الكبيرة لدرجة زوجوه بابنتهم عن طيب خاطر.
وبما أنه ـ الراوي ـ كان شخصا مثقفا شاهدا على الحاضرة الغربية معاصرا لثقافتهم جعل منه مصطفى مصدر الثقة والأمان ، فتح له داره وقلبه ؛ حتى حينما دنى أجله لم يفكر في ائتمان أحد على بيته ، زوجته ، أولاده ، وكذا أسراره غيره، وهنا تبدأ مسيرة الراوي الحقيقية في استكمال دور مصطفى سعيد في الحياة ، واكتشاف أشياء كان مصطفى ساكتا عنها في حياته ، كاشفا لها بعد مماته من خلال المكتبة الحية بمفكراته وأسراره سواء المرتبطة منها بصلته ببلبده وأمه ، أو الناطقة عن نزواته ونجاحاته في عاصمة الضباب.
الحقيقة التي اكتشفها الراوي عن مصطفى لم تزده إلا حيرة أكثر وتررد أكبر في اتخاذ أي قرار حتى حين طلب منه المحجوب الزواج من حسنة إنقادا لها من عيون الطامعين بها بما فيهم ود الريس ، اعتبر الطلب مزحة الدهر، ولكن الواقع أنه غلبه التررد والحيرة فحسنة كانت ساكنة في وجدانه وعقله الحب الصامت الذي يظهر إلا بعد موتها موت تحمل هو وزره ، الشيء الذي جعله يحرق مكتبة مصطفى سعيد لعله يتخلص من ظله الساكن فيه ، واستحمامه كما ولدته في نهر النيل ـ الذي كان له دور مهم في القصة بحيث ابتدأت منه الحكاية وانتهت فيه ـ لم يكن إلا فترة سكون مع النفس وإعادة ترتيب الأولويات والتخلص من الماضي بكل أحداثه فاسحا المجال لعيش مستقبلا مشرقا آمنا في ظل بلده الحر، فبلده وعائلته والآمانة المتروكة في عنقه كانت الدافع لينطلق حرا من كل القيود ليعيش فصول وأحداث جديدة في ثاني فصل من رواية الحياة.
بنت محمود: أراد الطيب صالح أن يقدم من خلال شخصية حسنة نموذجا آخرا للمرأة العربية ، فنموذجها هو نقيض لنموذج بنت مجذوب.
حسنة نموذج للمرأة المسالمة التي لم تختر من هذه الحياة إلا زوج محب وأسرة آمنة مستقرة، أعطت لمصطفى سعيد الشيء الكثير؛ الحب ، الحنان ، الأمان والإستقرار أشياء لم يجدها طوال حياته لا مع الشقراوات الأوروبيات ، ولا حتى حين كان في حضن أمه البارد ، أحبت في مصطفى سعيد ثقافته الواسعة ، خبرته الكبيرة في الحياة تجاربه المتعددة سواء الناجحة منها أو الفاحشة ، فوجوده غير في حياتها الشيء الكثير مثلما غير في حياة القرية وأهلها وأغناها من عطاءه، فضلت شخصا غريبا لعلمه على أي واحد من بني قبيلتها لجهلهم وتخلفهم ، فهي نظرت للحياة بعيون شخص عاصر مجتمعا مختلفا عن مجتمعه عالما وعارفا لأسراره وعومله. لذلك فحين فارق مصطفى حياة الدنيا وآختار حياة الاخرى ، ظل حيا في وجدانها الأمر الذي جعلها زاهدة في الحياة كارهة للرجال وأحضانهم رافضة لأي واحد منهم رغم إلحاحهم في طلبها ، فهي كانت متأكدة أنها لن تجد في أي رجل ما وجدته في مصطفى سعيد. ورغم أنها أرغمت بالزواج من ود الريس إلاأنها رفضت الإستسلام فهي مقتنعة بقرارها وقناعتها بأن شخصية مصطفى سعيد لن تتكرر في حياتها، فما كانا منها إلا أن آختارت النهاية وآعتنقت الموت ، لكن ليس قبل أن تضع حدا للقمع والجبروت الذي تعاني منه بنات جنسها من العبوديات المفروضة عليهن سواء من أباءهم أو أخواتهم أو حتى من أزواجهم ، فهي فضلت أن تضحي بنفسها مقابل أن تتحرر أخواتها من كل الذين يعتبرون المرأة لا شيء سوى أجساد تشبع شهواتهم وغرائزهم لا أفكار لها ولا قرار سوى تلبية متطلبات الرجل وشهواته المادية والمعنوية وتصبح قادرة على تقرير مصيرها بيدها هي لا بيد غيرها. فما كان منها إلا أن قتلت ود الريس وكذا نفسها واضعة نقطة النهاية لكل ما مضى ونقطة البداية لكل ما هو آت لعله يكون جميلا ، جعلت الرجل العربي يعيد حساباته وترتيباته في تعامله مع المرأة التي تعد جزء لايتجزء من حياته.
ود الريس: رجل في السبعينيات من عمره لعب دورا فعالا في تنشيط أحداث القصة ؛ ذلك أن الكاتب أسند إليه دور الرجل المزواج الذي يبذل زوجاته مثلما يبذل جلبابه ؛ وهذه الصفة غالبا ما نجذها في مجتمعاتنا العربية خصوصا المناطق الريفية منها؛ فالرجل هناك لايكتفي بزوجة واحدة وذلك إما ليثبت قدرته المالية على الإنفاق والغنى ؛ وإما أن يثبت قدرته الجنسية وفحولته وشبابه ؛ هذه النقطة هي التي ركز عليها الكاتب في شخصية ود الريس؛ فهو رغم أنه في السبعينيات إلا أن خريفه ما زال مخضرا قادرا على عطاء ما لايقدر عليه حتى من هو في مقتبل العمر مشيرا في هذا إلى الراوي.
كما أن ود الريس مثل نموذج الرجل البدوي الذي العندي الذي لا يهزمه أحد ولا يغير رأيه أحد حتى وإن كان على غير صواب مئة بالألف ؛ فهو عندما وضع هذف الزواج ببنت محمود حسنة ـ أرملة مصطفى سعيد ـ لم يستطع أحد أن يغير رأيه بقي متشبتا به رغم رفضها هي ذلك ؛ ورغم أن بعض أصدقائه أنهاه عن التشبت بقراره ؛ إلا أن عناده جعله مصرا عليه ؛ بحيث أنه لم يتقبل فكرة أن ترفضه امرأة وخاصة إن كانت أرملة ؛ فهذا معناه انهزام لرمز الذكورة الشرقية ؛ لكن رغم أن مراده تحقق غصبا عن الكل؛ بقيت هي متمسكة برفضها إياه كزوج ممتنعة عن رغبته في الإقتراب منها ولمسها ؛ الأمر الذي جعله غير قادر على الصبر والصمود أمام جسدها الفتان ، رفض أصابه بالجنون والفوران ؛ فعمد إلى آغتصابها الفعل الذي كان له انعكاس سيء على حياته وحياة حسنة وحياة القرية بأكملها ؛ فإصراره وعناده أدى بها إلى قتله وقتل نفسها بصورة مأساوية رهيبة ، هادفة إلى وضع حد لجبروت الرجل العندي الشهواني الذي لا هم له في الحياة إلا النيل من جسد المرأة بشتى الطرق.
محجوب: صديق الراوي منذ الصبا، شخصيته في الرواية كانت نموذجا للفتى السلبي الذي آختار النهاية الصغرى وأقصر طريق للوصول إلى جني المال وإلى بناء صداقة حميمة مع التربة والغرس ؛ فهو رغم أنه كان زميلا للراوي في صفوف الدراسة إلا أنه لي تكن له أهداف علمية كبيرة ؛ فالمدرسة بالنسبة إليه ما هي إلا وسيلة لفك الخط وتمييز الحروف الأبجدية من بعضها ؛ وآكتفى أن يتلقى باقي دراساته في الحياة من عصارة تجارب شيوخ القبيلة لذلك غالبا ما نجده مجتمعا بجد الراوي الذي فاق المئة عام وود الريس وكذا ببنت مجذوب فاحتكاكه بهم جعل منه استمرارية لحياة هؤلاء سواء في أفكارهم ومعتقداتهم أو حتى لأسلوب حياتهم النمطية.
محجوب الرجل الفلاح البسيط الممثل لشريحة معينة من المجتمع العربي غالبا ما تشكل الطبقة السائدة في هرم المجتمع ؛ اكتفى بدور الملاحظ الناقد للأوضاع السياسية والإجتماعية ، وهذ يبدو جليا في أغلب حواراته مع صديقه الراوي ؛ لتظل الحسرة والألم على أوضاع البلاد ساكنة في قلبه لأجل غير مسمى.
بنت مجذوب : شخصية أعطت نموذجا فريدا من نوعه عن المرأة العربية المتحررة في كل شيء في الكلام ؛ الجلسة ؛ حتى في تعدد الزيجات .... شخصية عادة لا نجد لها مثيل في مجتمعاتنا العربية فمن المسلم به اننا لانجد جلسة رجالية خصوصا في المجتمع البدوي تشاركهم فيها امرأة ؛ تشاركهم شرب الخمر والسجائر وتتحدث باباحية مفرطة. ورغم ذلك نجد في داخلها شعاع الشهامة والمروءة والأصالة ؛ وبان ذلك جليا في تسترها على فضيحة لم تشهد المنطقة مثلها من قبل والتي كانت بطلتها امرأة مثلها.
من جانب أخر فقد ركزت رواية موسم الهجرة للشمال على مختلف قضايا الإنسان العربي ، مشيرة لهمومه ، آلامه ، أفراحه ، إخفاقاته ونجحاته....، الرواية كانت مرآة عاكسة وكاشفة لجوهره الحقيقي بما يحمله من طيبة ومحبة من حقد وغل ، مسلطة الضوء على أنواع شخصية الإنسان وتأثير البيئة عليها ، فمنها البسيطة العفوية والمركبة المعقدة.
الرواية تناولت نقط جوهرية مهمة وحساسة كمسألة الصراع الحضاري بين؛ الغرب/الشمال والشرق/الجنوب، الرغبة في التغيير والتطور والإنفتاح الثقافي على مجتمعات وعوالم أخرى وهذا ما تضمنته الرواية من خلال قضية الهجرة.
وبالنظر إلى فحوى الرواية ومضمونها نجد لها أبعاد و دلالات عدة نختزلها في النقط التالية :
البعد الثقافي: الذي كان هو المحور الاساسي في الرواية فالصراع الثقافي القائم بين ضفتي الشمال والجنوب لن يذوب حتى وإن تقلد أبناء الجنوب أرقى المناصب في الشمال ذلك أن هذا الأخير يظل وسيظل في نظر أهله القطب الذي يحتوي تخلف وجهل الجنوب وما مساهمته في إدراك المعارف والعلوم ما هي إلا وسيلة لاستنزاف الشمال للطاقات والقدرات الفكرية والجسمانية للجنوب حتى لا يتقدم ويتطور بفضل الفرص التي منحها له ، كما تمثل البعد الثقافي في الجهل المتفشي في أوساط الجنوب والمشار إليه في ثقافة ختان البنات التي لايتقبلها العقل والمنطق ، تعدد الزوجات المتكرر لا من قبل الرجل ولا من قبل المرأة ، عزوف الأباء عن تسجيل أبناءهم في المدارس..... خلاصة القول أن الرواية احتضنت بين طياتها الصدام القائم قدم الدهر بين الحضارات والثقافات ، التباين بين التقاليد والأعراف الشرقية و الغربية.
بعد الهجرة : كان حاضرا في الرواية بقوة لدرجة انه سجل عنوانا لها فرغبة البطل والراوي في مغادرة البلاد ومعانقة عالم بارد و غريب لم تكن إلا وسيلة للتغيير والتطور الفكري والشخصي فانفتاحهم على الحضارة الاوروبية فتح لهم المجال لمقارنة واقعهم المر المرتبط بالأرض حتى الجذور مانعا لهم من التقدم وركب تطور الحضارة بواقع أجمل علميا ، فكرا، واجتماعيا ؛ وحتى اقتصاديا وهذا ما حمله البطل معه أثناء عودته للعيش في جزء نائي من بلاده بحيث عمد إلى زرع بعض مكتسباته من البلاد التي كان فيها بهده القرية التي لم تشهد في حياتها أي شيء ينم فيها عن الحياة الكريمة فبفضل البطل تطورت اقتصاديا وعمليا وهذا لم يكن متحا إلا بعودة المغتربين من أبناءها.
بعد التحدي والصمود : مثله لنا كل من مصطفى سعيد منذ أن كان طفلا يلهو في دروب بلده وأزقتها ، فاستغلاله لفرصة ولوج المدرسة ماكان إلا تحديا منه لأهل بلده الذين كانو يخبئون أبناءهم من ولوج عالم المدرسة الغريب عنهم ، وما هجرته إلى كل من القاهرة ولندن لم يكن إلا صمودا منه للوصول إلى أعلى المراكز من خلال تمكنه من كل العلوم والمعارف . هذا ما صبا اليه عندما صار محاضرا في أرقى جامعات لندن لعلم الاقتصاد علم عادة كان محتكرا من طبقة عليا للبلاد لم يكن في المعتقد أن يحتل هذا المركز فتى افريقي قادما من الأدغال .
كما و جدنا بعد التحدي والصمود حاضرا في العقل المتحجر لود الريس الذي ظل مصرا على الزواج من بنت محمود غير عابء برفضها له أو بعامل السن والزمن وإصراره أعطى له شحنة طاقة وحيوية.
جانب آخر من التحدي والصمود مثلته حسنة التي تحدت التقاليد والعادات ، تحدت المألوف بقبولها لمصطفى سعيد الرجل الغريب عن أهلها كشريك حياتها ، والتحدي استمر بشكل أقوى في رفضها لرغبة أهلها في زواجها بود الريس لما يمثله ذلك من قوالب رجعية ثابتة في المجتمع ولما كانت هذه القوالب متغلغلة في كيان المجتمع الذي تنتمي إليه رفضت الاستسلام متحدية لهم تحديا لم يهزمه إلا الموت الذي كان نهاية للظلم والطغيان؛ فقد كان إيمانها قويا مدركة للثمن الذي ستدفعه مقابلة كسر القيود الحديدية التي كبلت المجتمع لعصور عدة ، مفضلة الموت على الرضوخ لها .
وختمت الرواية بعد التحدي والإصرار في لحظة كان فيها الراوي على شفى حفرة من استسلام جسده لمداعبة مياه نهرالنيل له واسترجاع كل الأحداث التي مر بها مصطفى سعيد ،حسنة بنت محمود ، ود الريس .... كان الدافع لانبعاث روح جديدة في داخله تتحدى الزمن وأهواله صامدة أمام الدهر وأغوره.
بعد الانتقام : شكل بعد الانتقام نقطة تحول في حياة الفرد و المجتمع ، ابتدأ هذا البعد مع رغبة مصطفى سعيد الملحة في الانتقام لبلده من بطش العدو المستعمر المستبد ؛ المستغل لخيرات بلده وطاقاته الفكرية والطبيعية .... ، من استفزاز النظرة الحقيرة التي لم تزل في عيون أهل الشمال سواء اتجاه هو كفرد له مكان متميز في أوساطها أو اتجاه قطب الجنوب الشرق المرتبط عرقيا بأهله ، وهذا ما أدى به إلى قتل جين موريس عامدا للتخلص من كل إحتقاراتها وإهاناتها له باعتباره رجل شهواني ينتمي إلى مجتمع حيواني بدائي في كل شيء ، و بقتلها انتقم بداخله من معاناة الجنوب لمعاملة الشمال المهينة و المذلة.
وهذا البعد لم نجده في الأوساط الفكرية المتقفة الذي مثله مصطفى سعيد بل حتى في الأوساط الفكرية البسيطة أو لنقل المتحجرة والتي كانت حسنة وود الريس نموذجا له ، فقيام حسنة بقتلها لود الريس الذي أجبرت على الزواج به بعد موت زوجها لم تكن إلا خطوة أولى تتركها لبنات جنسها المظضهدات من عائلتهم ومجتعهم واضعة بفعلها نقطة النهاية لبداية جديدة يسودها الحرية وتقرير المصير.
بعد الجنس : البعد المسكوت عنه في المجتمع العربي والمحظور الكلام فيه ، أزاح عنه الكاتب الستار ليظهره للنور سواء في الشمال الذي يبيح كل شيء أو في الجنوب المقيد بالتقاليد والأعراف ، المكبل بالحياء والحشمة ، فإعلان مصطفى سعيد عن مغامراته الجنسية الشهوانية مع شقروات لندن في مجتمع غربي، لم يكن بشيء غريب عن القاريء، ولكن المثير في الأمر هو الحديث عن الجنس بإباحية مطلقة في مجتمع تحكمه القيم الدينية والأخلاقية وهذا ما نجده مشار إليه في مجالس السمر والسهرالتي كانت تقام في بيت جد الرواي وأصدقائه ، وما مشاركة بنت مجذوب الحديث في هذا الموضوع مع ود الريس والبكري وجد الرواي في حضور الراوي ، ما هي إلا إشارة وتأكيد على أن الجنس غريزة فطرية في الإنسان سواء كان رجلا أو امرأة منتميا للشمال المثقف أو الجنوب المتحجر، لابد من التعبير عن حاجته إليها كتعبيره عن حاجته للأكل والشرب وفق ظوابط شرعية.
بعد الموت : الموت بسلطانه وجلاله كان حاضرا بقوة في الرواية بمختلف أنواعه وطرقه واتخذ أبعاد ودلالات شتى بالنسبة للرجل أو المرأة ؛ فإذا نظرنا للانتحار نجده متمثل في المصير الذي آلت إليه كل من آن همند ، شيلا غرينود ؛ و إيزابيلا سيموز كوسيلة للهروب من غزو فتى وضيع قادم من مجتمع حيواني شهواني لقلوبهم واستعمارها؛ فانهزامهم أمامه كان وراء انتحارهم . فحين تمثل القتل فيما مارسه مصطفى سعيد من قتله لجين موريس كحل نهائي لإذلالاتها وإحتقاراتها له ؛ كما تمثل في موقف حسنة من مجتمعها الذي فرض عليها قيود من حديد رافضة إجبارها على شيء تأباه نفسها فكان قتل ود الريس وقتل نفسها بعده تضحية منها لتحرير بنات جنسها من قيود المجتمع ونقطة التحول لتقرير المصير.
الإنتحار والقتل كانا حاضيرين بجانب الموت الطبيعي (الوفاة) الذي ختم به الكاتب هذا البعد في رحيل مصطفى سعيد غرقا في نهر النيل الذي فاض في يوم من أيام الشتى ثائرا على أهله.
وبالرغم من مجهودنا البسيط في فل الخيوط المتشابكة للمعنى العام الذي تضمنته رواية "موسم الهجرة للشمال" سواء من خلال دراستنا لشخصياتها المتلبسة بغموضها وتناقضاتها ، أو من خلال تسليطنا الضوء على أبعاد ومدلولات محاورها يبقى ماهو مخزون بين طياتها أعمق وأكبر مما سطرته سواعد أيدينا ، فكل من يقرأ هذه الرواية يخرج بتصورات ورؤى جديدة.
"موسم الهجرة للشمال" لا تعكس واقع المجتمع السوداني وارتباطه بتربة الوطن ورائحة عشبها فحسب بل تعدت الحدود والجسور الجغرافية والتاريخية لتشمل الوطن العربي بأكمله من المحيط إلى الخليج.
عدل سابقا من قبل فدوى الجراري في الأربعاء فبراير 23, 2011 12:43 pm عدل 1 مرات